No attribution required.
لا أتذكر على وجه التحديد في أي سنة بدأت علاقتي مع الإذاعة المسموعة وشغفي بها، متتبعاً لعدد من برامجها، ولكن ما أعرفه أنني كنت مراهقاً لم يبلغ الخامسة عشر حينما تعلقت في أول برنامج، كان اسمه "زهور الحياة"، وكان يذاع كل يوم جمعة على إذاعة مصراته المحلية، التي ما تزال تبث برامجها عبر الموجة القصيرة 99.9 FM
مرت سنوات عدة وأنا استمع وأتتبع وأراسل البرامج التي تعجبني، وأدخل المسابقات المذاعة، أفوز حيناً بجائزة قل ثمنها وخف وزنها، وأخسر حيناً أخرى. وازداد اهتمامي وكبر مع الوقت، وأصبحت أتابع برامج عدة، ورغم أن المراسلة كانت تكلفني جهداً ووقتاً ومالاً أحياناً، إلا أنني كنت أجد فيها متعة. "زهور الحياة"، "عبر الأثير"، "ما يطلبه المستمعون"، "شباب ورياضة"، "أهل النغم"، "أنتم والإذاعة"، وغيرها من البرامج التي تابعتها لسنوات، راسلتها وشاركت فيها، واستفدت منها، تعرفت على بعض من فريق عملها، وانتظرت بفارغ الصبر شارة بدايتها.
ولطالما نهرني والدي عن الاستماع للإذاعة وطالبني بالتوقف والالتفات لدراستي، إلا أن تدخل والدتي جعله يتراجع عن طلبه أحياناً كثيرة. وفي أحيان أخرى كان يشعر بحماسي وتعلقي بالراديو ويشجعني على المشاركة في البرامج ويقول "واصل يا ابني واصل". كما كان يشعر بالفخر عندما يسمع اسمي ينطقه أحد مذيعي الراديو واصفاً إياي بالمستمع الدائم، وبصديق البرنامج، وهي مسميات كان يطلقها عليّ بعض مقدمي البرامج التي أتابعها.
والدي كان رغم عدم فهمه الكامل لحماسي وتعلقي بالراديو، إلا إنه كان يحاول أن يكون صلة الوصل بيني وبين الإذاعة
ولا أنسى أنه هو، أي والدي، كان رغم عدم فهمه الكامل لحماسي وتعلقي بالراديو، إلا إنه كان يحاول أن يكون صلة الوصل بيني وبين الإذاعة، إذ أنه في عديد من الأحيان كنت أترك رسائلي للإذاعة على منضدة غرفته أو في سيارته ليوصلها هو دون تردد وبأمانه لمقر الإذاعة.
أتذكر أن أول زيارة لي لإذاعة مصراتة المحلية كانت في أحد الاحتفالات بمرور أعوام على افتتاحها، وهي التي تأسست في سبتمبر من عام 1998. شاركت دون تردد بعد أن وصلتني دعوة للحضور، وهل يمكن لأمثالي أن يتردد في قبول مثل تلك الدعوة! فهي الفرصة السانحة التي لا يمكن أن تعوّض. كل ما علي فعله هو أن أتعرف على بعض العاملين فيها، أوطد علاقتي أكثر بمقدمي البرامج التي أتابع، وأقرب المسافات أكثر فأكثر.
كانت تلك الزيارة بمثابة الجائزة بالنسبة لي، فليس بالأمر السهل أن تأتيك دعوة لحضور الاحتفالية، من بين مئات أو آلاف المستمعين. ووقتذاك كانت هي الإذاعة الوحيدة في مدينة مصراتة، التي تتميز بتنوع برامجها.
استمر التواصل بيني وبين الإذاعة ثمانية أعوام كمستمع، ضاعت فيها رسائلي مرات كثيرة أو لم تقرأ، ثم انتقلت بعد إصرار من مستمع إلى أحد العاملين فيها. وقد أخذت قراري بأن أكون معداً، وأخوض غمار تجربة إعداد البرامج بعد استماعي لإعلان أذيع ضمن نشرة الأخبار مفاده ترحيبهم بأي مقترحات أو أفكار لبرامج إذاعية مناسبة لرمضان. تحيّنت الفرصة، استجمعت أفكاري، أحطت نفسي بعدد من المراجع ذات مصداقية، وقدمت مقترحاً لبرنامجين اثنين. وبعد وقت قصير أبلغتني لجنة البرامج بالموافقة على فكرة البرنامج، وطلبوا مني إعداد 15 حلقة نموذجية، جهزتها على الفور، وسلمتها على الطريقة الأسرع، عن طريق والدي.
في عام 2011، انتشرت أخبار ثورة الياسمين في تونس لتصل ليبيا، وبدأ ينتشر الحديث عن جمعة الغضب على وسائل التواصل الاجتماعي وسط نفي السلطات وجود أي حراك. وبعد ثلاثة أشهر من اندلاع الثورة في البلاد، انضممت إلى اللجنة الإعلامية للثورة بمصراتة الذي لم يكن الوصول لمقرها بالعمل السهل بسبب انقطاع الطرقات ووجود الحواجز. وخلال أسابيع قليلة فقط، انتشر عدد كبير من الصفحات على الانترنت لنشر أخبار الثورة، حتى أصبحت وسائل الإعلام البديل المصدر الأساسي للمعلومات.
وفي اللجنة الإعلامية التي أصبحت إذاعة مصراتة جزءاً منها بعد ذلك، انضممت إلى فريق عمل معدي برنامج "صباح الخير" الذي كان يبث عبر الإذاعة.
واليوم وبعد سنوات طوال من مسيرتي في الإذاعة بين مستمع لها وعامل بها، أيقنت أن للإذاعة حضور قد لا تستطيع التغلب عليه وسائل الإعلام الأخرى.
ومع اشتداد الحراك ووصوله نقطة اللاعودة بعد انتشار السلاح، أصبح انقطاع الاتصالات والإنترنت أداة قوات القذافي للحد من انتشار أخبار الثورة والمقاتلين. فما كان علينا نحن العاملين في الإذاعة إلا حل محل الإنترنت، ونقل الأخبار التي كانت تصلنا عبر الاتصالات الفضائية بأمانة وبسرعة.
وأصبح لنا الدور الأهم في رفع معنويات المواطنين عبر نقل أخبار انتصارات المقاتلين على جبهات القتال أو بث مقابلات مع قادة الثورة، ما جعل الناس تتسمر للاستماع لنشرة الأخبار عبر الراديو في منازلها، لتعود الإذاعة كمصدر أساسي للمعلومة مرة أخرى.
واليوم وبعد سنوات طوال من مسيرتي في الإذاعة بين مستمع لها وعامل بها، أيقنت أن للإذاعة حضور قد لا تستطيع التغلب عليه وسائل الإعلام الأخرى.
أما فيما يخص والدي، فقد أصبح يتصل بيّ يومياً لأخذ الأخبار مني، متأكداً دوماً من أنه لديّ الخبر اليقين. وأنني لن أتواني في إفادته بالمعلومة التي يريد، مؤكداً حيناً، ونافياً في أحيان أخرى.